Canalblog
Suivre ce blog Administration + Créer mon blog

عبد الرحيم العطري

11 juillet 2006

سقوط الأقنعة في “الليل العاري” لعبد الرحيم العطري

سقوط الأقنعة في “الليل العاريلعبد الرحيم العطري

بقلم الروائي: الأستاذ أحمد الكبيري

بالرغم من أنهم ” أولئك الذين يصنعون الموت

يدعون إلى عزف الأسى…فسأظل رغم أنفهم جميعا

منحازا للإبداعات السامقة، متواطئا مع الأحبة و الرائعين..

إننا ننتمي لثقافة مجبولة على الحزن و الحداد

لهذا علينا أن نصنع الفرح و نحتفي بالأصلاء”

بهذه الكلمة ذات الدلالات الإنسانية العميقة والتواطؤ المعلن فيها مع كل ما هو جميل وأصيل، والتي قالها الباحث والمبدع عبد الرحيم العطري في حق روايتي “مصابيح مطفأة” ذات كتابة..أبدأ مقاربتي لمجموعته القصصية الأولى ” الليل العاري” . الصادرة حديثا عن منشورات” دفاتر الحرف والسؤال” في 94 صفحة من الحجم الصغير. وهي تضم إحدى عشرة قصة يوحدها تقارب حجمها واللغة التي كتبت بها وكذا تقاطع موضوعاتها.

و مقاربتي لهذه المجموعة الممتعة، هي مقاربة تقديمية انطباعية أكثر منها دراسة نقدية موضوعية للمجموعة. سأكتفي فيها بإبداء بعض الملاحظات وطرح بعض الأسئلة لتقريب النص من القارئ الذي أسعى إلى توريطه في التفاعل البناء مع النص و دفعه إلى مناقشته من الزاوية التي ستظل مغفلة عن عين هذه المقاربة .

وأول ما يلفت النظر في هذه المجموعة هو عنوانها الذي يستفز فينا مجموعة من الأسئلة، التي سنجعل من طرحها أساسا للغوص في عوالم النصوص وخطاباتها. فإذا كان الليل بالنسبة للكائنات الحية برمتها، ملاذا للراحة والنوم والسكون والتخفي، وبالنسبة لنا في ثقافتنا العربية والمغربية على وجه الخصوص يعني الستر والكتمان والعتمة، فإن المبدع العطري جعل من هذا الليل في مجموعته ليلا قليل الحياء إذ أسقط عنه كل أوراق التوت لتبدو سوءته ويمشي بين العالمين عاريا. فهل العري هنا يفيد الضوء المسلط على شخوص وفضاءات وأزمنة المجموعة القصصية أم يفيد السفور الكاشف عن سوءاتها التي لا ينفع في حجبها لا لباس النهار ولا حلكة الليل؟ ثم هل هذا الليل العاري يشكل فقط، جزءا من الظلمة المعربدة في واقعنا المعيش أم هو الظلمة نفسها؟ والعري هل يمس ما يحدث في الليل أم يمتد للكشف عما يظل معتما في واضحة النهار؟
وقبل الإجابة على هذه الأسئلة، أود أن أبدي بعض الملاحظات التي لا يمكن القفز عليها، والتي من خلالها قد أقدم بعض الإجابات.. وأول ملاحظة سجلتها وأنا أقرأ مجموعة الليل العاري للمبدع عبد الرحيم العطري هي أنها نصوص صعب تجنيسها . حتى وإن كان الناشر حسم الأمر بالكتابة على الغلاف ” الليل العاري ” قصص من أجل الياسمين، إلا أنني أعتبرها نصوصا خائنة لجنسها. وهي خيانة جميلة تعطي للنص إمكانية التداول كوحدة منفصلة عن الكل وكجزء متصل بهذا الكل. أي بمعنى، أنه يمكننا قراءة كل نص من المجموعة على أنه قصة مكتفية بذاتها، كما يمكننا قراءتها كجزء من عمل سردي متكامل من حيث بناؤه وفضاءاته وشخوصه.. وكذلك بقدر ما يحتفي النص الواحد بالتفاصيل الدقيقة، بقدر ما تلمح المجموعة بكاملها إلى عوالم شاسعة ومعتمة. وهذا ما دفعني لتسجيل الملاحظة الثانية وهي المتعلقة بموضوعات المجموعة. ذلك أن القارئ لمجموعة الليل العاري سيقف على أن هنالك دائما تيمة رئيسية توحد بين نصوصها. فإما أن تكون هذه التيمة، هي الفضاء الرئيسي في المجموعة، أي فضاء الحانة حيث تدور مجمل الأحداث وتنكشف جل الأسرار وتتعرى العتمة من تبانها. أو أن تكون هي الشخصية الرئيسية،أي الشاب المعطل الذي يشكل قطب الرحى ومحور الحكايات وأساس الموضوعات . وهذا من المكونات السردية التي تجعلنا أمام مجموعة قصصية تتوقف فيها الحكاية في هذا النص لتبدأ وتتواصل في نصوص أخرى ضمن سياقاتها العامة.

وهي بذلك، على الأقل من وجهة نظري، تشي بأصالة الكاتب وتفرده. لأنها تفضح انسجامه مع خطابه ورؤاه وتبرهن على قناعاته وتدل على أدوات اشتغاله، ومن ضمن هذه الأدوات اللغة، كمكون أساس في العملية الإبداعية. وهنا، لابد أن أشير إلى أن الباحث والمبدع عبد الرحيم العطري كما تعرفت إليه، يتميز بأسلوب خاص في الحديث كما في الكتابة.. وهذا الأسلوب أساسه لغة يتناغم فيها الشاعري العذب والبسيط العميق والثائر الغاضب. وهذا الأسلوب هو الذي جعلني أسجل أن المجموعة يطغى فيها حضور السارد وتوجيهه للأحداث والمواقف والرؤى نحو التحريض الصريح على المقاومة والصمود والإدانة المباشرة لكل أشكال الظلم والطغيان والقبح.

وحتى يتسنى لي أن أجيب على بعض الأسئلة التي طرحتها في بداية هذه المقاربة، انطلاقا من عنوان المجموعة وربطها بالسياق العام الذي أشرت فيه إلى الملاحظات االسالفة الذكر، لا بد أن أعود إلى نصوص المجموعة واستنطاق مكنوناتها.

نقرأ في القصة الأولى المعنونة بياسمين: ” تقترب من والدتها بعد أن أعياها التجول والتسول ، النوم يأتيها، من حيث تدري ولا تدري، تبدأ في البكاء، تطلب مغادرة المكان، تنهرها أمها، تعيرها بأوقح العبارات” اسكتي أبنت الفاعلة والتاركة”، توافق الأم على طلب طالب الفلسفة، ترتمي في أحضانه إيذانا بانطلاق موسم العري” ص7 - 8 . الفضاء هنا هو الحانة، حيث يعلن الكاتب عن هروب أم ياسمين من عوزها، وطالب الفلسفة من محاصرة أسئلة الواقع والمستقبل، وياسمين التي لا يتجاوز عمرها الست سنوات من طفولتها ، ليرتمي الجميع في أحضان الليل لممارسة العري..هذا العري الذي سيضيء واقعا معتما تعيش فيه الطفولة الضياع والحرمان والشباب حامل الشهادات العطالة واليأس وتعيش فيه الأمومة تمزقات الروح والجسد. ونقرأ في قصة تراجيديا الليل العاري:” لكنه هذه الليلة بحاجة إلى مكانه الطبيعي، يريد أن يعتذر لياسمين لما بدر منه في ليل عار فائت، يريد أن يقول لوالدتها المعتوهة، أنها تغتصب طفولة ابنتها بالزج بها إلى عالم الليل..”ص 21. لكنه سيفشل في تحقيق حلمه، سيفشل في إيجاد وضعه الطبيعي، كإنسان مستقر، يعمل نهارا ويأوي إلى فراشه ليلا يغمره دفء الأسرة وجدران البيت ..فيدعن لرغبته في النوم، حتى ولو كان هذا النوم في العراء كما ينام شباب معطل قرب أبواب الوزارات التي عودتهم على الوعود والخذلان. نقرأ في نفس الصفحة : ” قريبا من شباب معطلين اختاروا المبيت في العراء قبالة وزارتهم التي خذلتهم ولم تشغلهم، افترش ” الكارطون” منتظرا أول خيط الفجر…” هذا الفجر الذي وإن كان يعبر عن الأمل إلا أنه أمل بعيد المدى في ظل الظروف التي يقضي فيها شبابنا ليله كما تصورها لنا مجموعة ” الليل العاري”.

ونقرأ في قصة “حبل الكذب” التي تحكي لنا قصة الحاج عمر المقاوم، الذي هو الآخر يواصل حياته بوجه وقناع، وجه لليل وقناع للنهار.” بواسطة النفحة الوزانية، يستطيع الحاج عمر نهارا نسيان كل شيء ، بواسطتها يمتلك قدرة على مواصلة المسير في طريق ملآى بالخذلان والأنذال، وبواسطة الجعة وسعيدة قيدومة عاهرات الحانة وخالد/ربيعة يستطيع ليلا أن ينسى ويغرق في صناعة الحياة حد الانتشاء، ولو كانت حياة مزيفة..”ص 39. وكما يلاحظ هنالك استمرار الفضح والإدانة للنهار من خلال تعرية الليل.. فالحاج عمر في هذه القصة يهرب للحانة ليلا ليعيش سقوطه وخيباته وكذا انتقامه من الزمن الذي حضي فيه الانتهازيون والخونة بشرف المقاومة، بينما ارتمى المقاومون وأبناء الشهداء إلى الظل أو الهامش..ونقرأ في القصة الأخيرة من المجموعة المعنونة ب”خروج،” والتي تفضح تجارة اللحم البشري بالتقسيط ، فتيات بكر بئيسات، وجميلات تقدم مقابل حفنات من الدولارات لمشايخ المال والجهل والتصابي : ” لما يتعبان تأخذهما بنت الكواي إلى حانة النصراني لتقتل النادل القزم غيظا وحنقا، تحجز جناحا كاملا وتطلب أفخر المشروبات، وفي الأخير ترمي لمسيو طونيو المال أرضا، لكن القزم لا يعبأ لما تفعل، لا يهمه هو إلا المال الذي يجنيه منها..” ص 92.

وبهذا المعنى الذي سارت علية المجموعة من أول قصة إلى آخرها تسمح لي أن أخلص إلى القول بأن” الليل العاري” للمبدع عبد الرحيم العطري، هو ضوء كاشف، واحتجاج مباشر، وإدانة صريحة لنهارنا الزائف الذي تغتصب فيه طفولتنا، وتقهر فيه رجولتنا، وتذل فيه أمومتنا، ويعطل ويطفأ فيه شبابنا، ويدفعنا بالتالي إلى هذا السقوط القاتم في عتمة ليل لا يرحم والاستسلام لجبروت زمن تضيع منا فيه الكرامة. نقرأ في نفس النص الأخير:” لا معنى للكرامة في ليل موغل في عرائه، ليل عار من كل الأقنعة..”ص 89

وخلاصة القول، فالمجموعة راهنت إبداعيا على موضوعات تحتفي بالليل وبالهامشي، لتضيء نهارنا بشموس الحقيقة التي يأبى البعض إلا أن يواصل تغطيتها بالغربال، كما راهنت المجموعة أيضا على استقلالية النص الواحد وتواصله ضمن باقي نصوص المجموعة الأخرى، وأعتقد أن للتفاصيل التي تعنى بها السوسيولوجيا كتخصص للمبدع عبد الرحيم العطري، دور كبير في عمق تحليله ووصفه ورؤاه.

أحمد الكبيري

elkbiriahmed@yahoo.fr

(*) قدمت هذه الورقة ضمن فعاليات حفل توقيع “الليل العاري” المنظم يوم الجمعة 7/07/2006 ، بدار الشباب تابريكت سلا ، من طرف جمعية رواد الجامعة الشعبية السلاوية .

Publicité
Publicité
11 juillet 2006

كشف العتمة في مجموعة ” الليل العاري ” لعبد الرحيم العطري

كشف العتمة في مجموعة ” الليل العاري ” لعبد الرحيم العطري

بقلم القاص و الناقد : الأستاذ محمــــد فـــــري

ترددت كثيرا في نوعية القراءة التي سأمارسها هنا، وترددت في اللجوء إلى الأدوات السردية المساعدة على التفكيك والتحليل، والاعتماد عليها في تطبيقها على النصوص، لتكون الدراسة أكاديمية محضة، تمتح من المعرفة العالمة وتحاور نظريات السرد المختلفة والمتعددة، ثم استدركت الأمر وقلت ما شأني بذلك وأنا بصدد نصوص تنتمي لفن جميل هو فن السرد والجمالية هنا تقتضي الانطلاق من الذوق والإحساس والبحث عن المتعة، فأي متعة سنجدها في تشريح وردة جميلة إذا سحقناها وبحثنا عن كيمياء عناصرها.
وهكذا فضلت الميل إلى القراءة الانطباعية التذوقية والتي يسميها البعض عاشقة يتماهى فيها القارئ مع النص ويشارك في كتابتها بتأويلاته..هي ” قراءة عفوية ” يتاح لي فيها المجال لأتحرر من كل القيود، وأرحل مع نصوص المجموعة في حرية تامة..

ولنبدأ من البداية.كنت في لقاء سابق أشرت إلى عتبات مجموعة الليل العاري، وتوقفت عند العنوان والصورة والتجنيس وكنت أشرت إلى أن الليل العاري يكشف عن جملة متوترة اعتمدت المجاز وجعلت الليل عاريا، هذا الليل الذي تستتر الأشياء والكائنات عادة تحت سدوله، ليصبح رمزا للإخفاء، سواء كان هذا الإخفاء إيجابيا أو سلبيا، بذلك فهو يلغي الفضح والفضيحة..
لكن الليل ليس رمزا دائما لما هو سلبي..وإلا لما تغنى به الشعراء، وجعلوه زمنا للبوح، بوح تلائمه السكينة التي تقبل معه، وتفتح المجال للتأمل ومراجعة الحساب..حساب النفس على الأقل.

أخونا عبد الرحيم أبى إلا أن يجرد الليل من كسوته الحالكة..ليجعله عاريا يكشف عن كل شيء ولا يخفي أي شيء..وبذلك يجرده من أحد عناصر سحره وجماله، ويوجه عن طريق ذلك أصبع الاتهام والإدانة إلى ما لم يعد مستترا، فيكشف عن وجهه، ويزيل عنه اللثام..وبذلك يخلق العنوان في أذهان القراء - وأنا منهم – صورة عالم تجتمع فيه دلالات الانزياح عن النزاهة والاستقامة والفضائل كلها..لتنفتح الأبواب أمام نقيض ذلك.

وإذا ما تم التركيز على البنية السطحية لنصوص المجموعة، فإننا نجد العنوان يتصادى مع عدة عبارات وجمل:

بالصفحة 4 نجد: ” الساعة تشير إلى العاشرة، وياسمين لم تعانق كما فعل أقرانها حكايا الرسوم المتحركة..لم ينكتب لها النوم في أحضان دافئة بعيدا عن صخب الليل العاري…”

الليل العاري كشف هنا عن كائن لم يوضع في مكانه الصحيح، إنها الطفلة ياسمين ( التي تحتمل عدة دلالات )، والتي ما تزال ساهرة مع كائنات ليلية سماها السارد كافكاوية..ربما لتعرضها لمسخ معين.وتطالعنا الصفحة 6 لنستمر على هذا المنوال، فقد: ” حان منتصف الليل، ومع ذلك تستمر ياسمين في اللعب أمام الطاولات، النادل القزم الذي تركه النصراني صاحب الحانة ليكون عينه التي لا تنام،ينهرها من حين لآخر، يشتمها بأوقح العبارات ”

ويأتي الليل مرة أخرى في الصفحة 7 فيخبرنا السارد أنه ” عند تمام الساعة الواحدة بعد منتصف الليل تضاعف ثمن الجعة، النادل القزم يحاول إقناع الزبناء بأن الزيادة تكون من نصيب أصحاب الحال الذين يغضون الطرف عن ساعة الإقفال القانونية ”

لكن الليل في العنوان لم يغض الطرف، أراد له الكاتب أن يفتح عينيه جيدا، وأن ينظر شزرا إلى ما يستحق الكشف والفضح..وكان عاريا ولن أعدم وجود لفظة الليل في جميع نصوص المجموعة، فهي رمز الزمن الذي تحركت فيه الأحداث والشخوص، هي زمن الوطاويط التي لا تطيق النور، ولا تنشط إلا في الظلام ،كل هذه المعطيات النصية تتضافر لتجعل من الليل سلاحا معريا، سلاحا يعرض واقعا خلفيا، واقعا قد يكشف عن اهتراء مجتمع موبوء…

وأعرج على الصورة الفوتوغرافية المعلنة عن نفسها على وجه الغلاف، فأجدها لقطة اختارت زقاقا أو دربا مظلما يشع في عمقه مصباح خجول يحارب الظلمة في يأس، ويكشف عن ظلين لشخصين يتجهان نحو باب مقفل، فيتضافر الليل والباب هنا على الإقفال، ويتحالف هذا الإقفال مع العتمة القفل في مواجهة بصيص النور، هذا النور الذي يحاول بدوره جاهدا أن يحارب الليل وعتمته، ويعريه من حلكته، عساه يكشف عما يخفيه..

ويطالعني التجنيس الأدبي صريحا تحت الصورة، ملحا على كون النصوص ” قصصا من أجل ياسمين “. وأنتقل إلى عتبة أخرى، أو مؤشر نصي أجده عبارة عن فقرة على ظهر الغلاف، جاء في بدايتها: ” الليل عالم آخر ينفتح على حيوات من التيه والضياع، دنيا قزحية تتراقص في أبهائها نجوم البلادة، تزأر في أقبيتها خفافيش اللعنة، حلكته تفتض أسرار النهار المزيفة، تشي باقتحام تخوم الأنا المتشظية..” وأجد هنا مؤشرا يغنيني عن إضافة شيء إلى ما قاله الأخ عبد الرحيم وسارده، لأنه قول يفسر دلالات العنوان بوضوح يكاد يكون تصريحا.

كل هذه المؤشرات توحي بالكشف عن واقع معين، وبمتابعته في أدق تفاصيله الخفية، وهذا ما أكدته قراءتي لنصوص المجموعة:

• فسرحت مع ” ياسمين ” التي تحركت في فضاء الحانة القاتم الذي تسكنه شخوص تلفها المأساة، شخوص تعكس حالات يعري السارد ليلها..تضيع ياسمين الصغيرة وسط الحشد .. وتضيع مرة ثانية بالخارج عندما تعتقل والدتها مع زبونها..وتبقى وحيدة وسط ظلمة الشارع، ومواجهة متوقعة مع حشود أخرى…

• وانتقلت مع ” للحزن مواويل أخرى ” لأتفاعل مع تناص حاول الكاتب أن يتماهى فيه مع نص حدثنا عنه في جلسة بنادي الأسرة المعروف بالرباط، وقدم لنا أشخاصا واقعيين برفقة أشخاص ورقيين، فكانت محاولة الجمع بين نوع من السيري والتخييلي

• وفي ” تراجيديا الليل العاري ” تعرفت على المعطي الذي ترك شهادته العليا في الفيزياء، وراح يطهر المدينة من فضلاتها بعدما أهداه رئيس الجماعة السلم واحد جزاء له على مشاركته الفاعلة في الحملة الانتخابية..وكأن المعطي هنا بدل جزء من كل، لأنه حالة عكست واقع المعطلين من ذوي الشهادات الذين لم يجدوا ملجأ إلا خياما بلاستيكية اعتصموا داخلها أمام قداسة القبة…

• واستعرت قناعا ودخلت به ” كرنفال المباديء ” وتعرفت على سارد يكتب رسالة إلى شخص عبر الضفة الأخرى..وفيها كشف عن إحباطاته في واقع كرنفالي مقنع لا يكشف عن حقيقة لا تؤدي ثمنها إلا فئة معينة هي التي ينتمي إليها السارد نفسه..

• كان كرنفالا منافقا أسلمني إلى ” حبل الكذب ” حيث الرهان على ثنائية الحقيقي والزائف: الحاج عمر والمعاشي..شخصيتان متناقضتان خاب فيها الأول رغم صدقه وإخلاصه لمبادئه فخيبت ظنه الحياة..وابتسم الحظ للثاني رغم الخيانة والتنكر لكل القيم..فصادف النجاح والصعود إلى مناصب القيادة..واقع مقلوب زائف عجز الحاج عمر عن مقاومته فأسلم العنان وساير زيفه وكذبه..

• واعتقدت أنني سأجد في ” صباح خريفي ” بعض الإشراق، لكن الغلبة كانت للعتمة، حيث تنكسر أحلام فتاة في ريعان شبابها وتتحطم أحلامها في الإمساك بملجأ دافيء يبعدها عن السقوط..ويكون السقوط أقوى من كل طموحاتها…

• ويطالعنا ” مسيو طونيو ” أو النادل القزم الذي ورث الحانة عن الباترون النصراني الذي رحل إلى بلاده في أثناء الأحداث التي راح ضحيتها ” شهداء كوميرة ” حسب تعبير وزير داخلية سابق..فتتغير أحوال النادل ويحمل لقب المسيو طونيو وتتسع ثروته..

• وأصل إلى قصة ” وداعا ” التي ودع فيها الشاب الثوري شعاراته السابقة وأحلامه الإيديولوجية ليتحول إلى حارس عمارة بالنهار و” فيدور ” ليلي بحانة مسيو طونيو..تاركا للآخرين البحث عن أسباب تحوله رغم توقف البعض عند حدث اعتقاله…

• و أترك بقية النصوص ليكتشفها القارئ بنفسه من خلال عناوينها: ” لا تسألوا “، ” لعنة الكف “، ” خروج “.

كانت أول ملاحظة أثارت انتباهي وأنا أقرأ المجموعة، ذلك الربط الذي حاول الأخ عبد الرحيم أن يؤسسه بين النصوص، ففي كل نص إحالة على عنصر معين في النص الذي يسبقه، وهي إحالة لم تنزح عن خاصية الاتساق، ولم تجنح إلى التنافر، بل ساهمت في خلق أجواء ” حميمية ” عائلية بين النصوص إذا صح التعبير، وكأن المجموعة بذلك عبارة عن مسلسل ذي حلقات مكتفية بذاتها ومترابطة فيما بينها في نفس الوقت، وكأن الأخ عبد الرحيم يستغل ما أسماه القدماء بخاصية ” حسن التخلص “، وقد أحسن التخلص فعلا، وجعل النصوص تتقدم باعتبارها مجموعة قصصية، وفي نفس الوقت رواية تكشف عن أحداث اشترك شخوصها في تأسيسها، وأجمعوا كلهم على عرض واقع له أنياب حادة.

الكشف عن الواقع يوحي بأن الكتابة هنا تميل إلى الاتجاه الواقعي الذي يقف محمد زفزاف شامخا على قمته، وأسمح لنفسي هنا أن أقول إن مجموعة ” الليل العاري ” قد تشبثت بأساليب الصياغة الواقعية، واهتمت في كثير من جوانبها بالوقائع والأحداث، وهذا معناه أن الحكاية كانت سيدة الموقف، والاشتغال على هذا النوع من التوجه الواقعي يفرض التركيز على عنصر الحكاية، ولا أعتقد أن الاستغناء عنها متيسر، وإلا فستتحول إلى نوع من الخواطر والمواقف الذهنية الذاتية.

الحكاية والتركيز على الأحداث في الاتجاه الواقعي أمر لا مناص منه إذن، وهو ما يمتع القارئ في النصوص السردية ويشد انتباهه، والتخلي عن مثل هذه ( الثوابت السردية ) يلغي جمالية السرد ومتعته..وليس المقصود بالثوابت هنا دعوة إلى التحجر والتوقف عن التطوير، فمهما تمادت الحداثة في هذا المجال فإنها لايمكنها إلغاء بعض الخصائص المحددة لجنس القصة، وإلا فستنزاح إلى جنس أدبي آخر علينا أن نبحث له عن اسم جديد، بل حتى بعض النماذج السردية التي تحاول الاشتغال على اللغة أكثر من الاشتغال على عناصر سردية أخرى لم تستطع التخلي نهائيا عن بعض ما سميته بثوابت السرد، ولا شأن للحداثة أو غيرها هنا، فالإغراق في التجريد بدعوى التجريب مثلا قد يدفع بنا أحيانا إلى افتقاد المتعة الجمالية التي هي أساس كل فن.

من هنا أكرر أن واقعية الأخ عبد الرحيم قد أمتعتني حقا، - هذا رأيي على الأقل – بل أثارني إمعانه في مسايرة الواقعية إلى أقصى حدودها عندما أقحم في نصوصه أسماء أشخاص واقعيين لهم مرجعيتهم الحقيقية إلى جانب الأشخاص الورقيين.

ما قلته هنا لا يعني أن الكاتب قد ارتبط بالصياغة الواقعية في مجراها التقليدي مكتفيا بعرض الأحداث والوقائع في فضاءات معينة، بل حاول أن يطبع ذلك ببصمته الخاصة عندما اجتهد وتجاوز ذلك إلى الصياغة بالبنية العامة للنص، فهو يفجر في وجهنا واقعا معينا، ويلتقط منه صورا مختلفة من الحياة، يوحد بينها محور واحد هو محور الغبن والإحباط الذي أعتبره تيمة تربط بين النصوص وتساهم في اتساقها، إلى جانب ما سميته سابقا بحسن التخلص.

الكاتب إذن يلاحظ الواقع ويتفاعل معه، ثم ينقله إلينا بعد إعادة ترتيبه، وإضفاء صياغته الفنية الهادفة إلى خلق توليفة بين عناصر الحكاية وخصوصيات البناء.
ملاحظتي للأشخاص الواقعيين الذين أشرت إليهم سابقا، تدفع بي إلى إعادة النظر في إشكالية العلاقة بين السارد والكاتب، سأنسى القواعد المدرسية التي تحرم الخلط بينهما، لأقول بدون حذر إن في السارد شيئا من الكاتب..

ألا يقال بأن كل نص يعكس كاتبه بصورة أو بأخرى؟ أليس الكاتب هو من تخيل شخوصه؟ وجعلها تفكر بدله؟ سأنسى باختين وجينيت وغيرهما وأقول إن الشخوص هم ملامح من الكاتب مهما كان محايدا، هم شذرات منه، هم بعض أحاسيسه ومشاعره، هم ملفوظاته غير المباشرة، هم مرايا تعكس أجزاء منه، وتعكس ما يرفضه أو ما يطمح إليه، هم سعاة بريد ينقلون عنه، أو قل إنهم ” حمادة الراوية “.. يحكون بدله ويعبرون عن نوعية تفاعله مع واقعه، بذلك أتجرأ قائلا إننا نجد الأخ عبد الرحيم في الكثير من شخوصه ، وعبرهم أو بواسطتهم يمارس التأليف والكتابة، انطلاقا من شروط تدفع به إلى نقد الاجتماعي والسياسي، شروط هي المحيط المتعلق بإنتاج هذه الكتابة..
وما يشجعني على هذا الحكم طبعا هو محاولة الكاتب تكسير بعض الحدود الفنية، تلك المتعلقة بالشخوص والتي سبقت الإشارة إليها، حيث تم اللجوء إلى بعض الأحداث الواقعية بشخوصها الواقعيين، مما يجعلني أتلمس بعض الملامح السيرية الممتزجة بالمتخيل.

فعندما يحدثني الأخ عبد الرحيم عن نادي الأسرة مثلا، وينقل أحداث قراءة عمل أدبي لكاتبة حقيقية، شارك فيها كتاب حقيقيون، وينقل بعض أقوالهم وأفكارهم التي راجت في أثناء ذلك، لا يسعني إلا أن أتخيل نفسي حاضرا معهم أشارك الكاتب نفس الحضور، وأشارك أصحابها الرأي أو أخالفهم فيه، وأنا أستمع إلى التدخلات والمناقشات، وبذلك أتقاسم الكتابة والتأليف مع الكاتب بصورة غير مباشرة..كل ذلك جعلني أتخيل الكاتب متحدثا في الفقرة التالية، وليس السارد: [” الأمر يتعلق بنص ماكر ومخادع.. نص مستعص على القبض.. نص لاجنس له على ما يبدو “، هكذا قال العلام لما أراد التوغل بين دفتيه، فما يقرأ في ” للفرح أغنية أخرى ” لا يحيل في الحقيقة على الجنس الأدبي الذي سطره الناشر – وليس المبدعة – على الغلاف، إنه نص مستفز يتطلب قراءة خاصة، فهو يستثمر تقنيات روائية ويراهن على فضاء حكائي يمتزج فيه البيوغرافي مع الحكائي مما يؤهله للولوج إلى جنس الرواية من أجمل المداخل. ] –” للحزن مواويل أخرى “: ص 13

الكاتب يعيش واقعه إذن، ينظر إلى جوانبه ويحيط بدقائقه وبواطنه، ويعرف يستتر تحت ظلمة ليله العاري من خفايا وأسرار، فيختار ساردا يناسب هذه المعرفة، وينسجم مع رؤية سردية تعتمد معرفة كلية، وبذلك يهيمن ضمير الغائب في جل النصوص، وتهيمن معه الرؤية من خلف.وتبدأ النصوص كالتالي:

• من المؤكد أنها لم تنه ربيعها/خريفها السادس…” ياسمين ” ص 4
• مترعا بالأحزان يبعثر الخطو في شوارع مدينة أصابها الاهتراء والاختناق، تتقاذفه اللحظات المجروحة، تأخذه نحو الغابر فيها…..” للحزن مواويل أخرى ” ص 10

• فين اللبدة والما سخون، واسربي راه العصر ودن فبيلة..الحاج عمر يخاطب إحدى زوجاته..إنه يتهيأ للصلاة…” حبل الكذب ” ص 36• …ص 44….ص 52….الخ

وسارد غائب من هذا النوع، لا تغيب عنه بواطن نفسيات الشخوص، ويمكن توضيح ذلك من البنيات النصية التالية:

• إنه يعي جيدا أن هذا المبلغ الذي سيهدره في سبيل اللذة سيؤثر سلبا على الموازنة الشهرية…ص 7

• مترعا بالأحزان…إنه يهفو إلى التخلص من كل هذا الذي اعتمل في أعماقه منذ تلك الليلة المشؤومة…..ص 10

• شارع النافورات…لم يقدر صاحبنا على تحمل كل هذا…تستهويه معروضات…لا يتعاطف…ص 11

• حدث نفسه طويلا وهو يطوي المسافات، تذكر….ص 17

• لكنه هذه الليلة بحاجة إلى مكانه الطبيعي، يريد أن يعتذر لياسمين لما بدر منه في ليل عار فائت، يريد أن يقول لوالدتها المعتوهة، إنها تغتصب طفولة ابنتها بالزج بها إلى عالم الليل. إنه يكره العمل ليلا….ص 21

• لم يدر المعطي كيف تسللت دموع مالحة من مقلتيه، اهتاجت وانسكبت عبر تجاعيد وجهه، تحسس ملوحتها ولعن اللحظة التي تقود نحو العطالة والمبيت في العراء. تساءل عن مدن الملح ومرض الملح الذي اختطف منه أعز الناس إلى خافقه…ص 24

• إنه يعي جيدا أنه يكذب على نفسه، وأنه غارق في الكذب…ص 39
تدخلات السارد هنا تساهم في الكشف عن الحقائق الغائبة، وتتضافر مع الشخوص لتعرية الليل من ظلمته، وكأنه بذلك يعرض مواقفه الخاصة، ويعقد صلة وثيقة مع القارئ، وهي صلة لا تنبني على عرض هذه المواقف بصورة مباشرة، فالسارد لم يفسر كل شيء، بل ترك المجال لتحرك الشخوص ومواجهة القارئ بمواقفها وتصرفاتها عبر فضاءات بساهم وصفها في إدانة الواقع بطريقة إيحائية.لنستمع إلى هذه الفقرات:

• ” قدماه تعتمران جوارب مثقوبة وحذاء مثقوبا أيضا، أعياه المسير، أبواق السيارات المجنونة تضايق وحدته، هتاف المعطلين الذين قادتهم شهادتهم العليا إلى السكن في خيام بلاستيكية قبالة البرلمانـ يذكره بزمن مضى، أطال النظر في خيامهم ومعاناتهم ليجد نفسه مندلقا مع السيول الآدمية التي تصب بالشارع الرئيسي، فالشارع إياه كعادته، فرصة رائعة تتحينها الأجساد لممارسة عشقها الاستعراضي، الكل هنا مدعو للاصطياد أو الانصياد، كراسي المقاهي الكثيرة عافت جلساءها من البصاصين، ها قد ترهلت مؤخراتهم عليها وجحظت أعينهم الباحثة عن لا شئ…” ص ص 10، 11

• ” الشارع الرئيسي فارغ إلا من سكارى بؤساء لفظتهم الحانة الحقيرة، ياسمين برفقة والدتها مرة أخرى وطالب آخر في مطلق الأحوال ينتظرون سيارة أجرة، سيارة الأمن تتربص بهم وبغيرهم من كائنات الليل، عراك متواصل بين بائعات الهوى حول زبون كريم من آل الذهب الأسود.. بائع جرائد الغد…كلاب ضالة وقطط حبلى.. تترنح في الزوايا المظلمة…” ص 16

السارد هنا يركز على بعض العناصر المكانية التي تدعم الضياع والتشرد.. والوصف هنا لم يعد بريئا.. ولم يعد بالتالي مجانيا.. والهدف ليس هو جمالية المكان بل أصبحت للوصف أبعاد إيحائية تدعم غاية النص، وهي غاية تراهن دائما على كشف الوجه الخفي للواقع، وإدانته عن طريق عرض ثقوبه. لأن وصف الشارع كمكان كان متوترا لارتباطه ببساطة بواقع متوتر بدوره، وكانت غاية هذا الوصف هي الوصول إلى هذه الحقيقة الصريحة:

[ ” يغادر زمن الفجيعة إلى الشدو والغناء بصوت مبحوح في سكون ليل يبكي الزمن الفادح، القلب يعتصر ألما على ضياع في زحمة المبادئ وخذلان الشهادة، وفي اللب شيء مما راج في نادي الأسرة من أسئلة شقية عن الوطن. ” فما الوطن يا حياة؟ ها ثقوب الوطن صارت أكثر إيلاما، فمن يقدر على حياكتها؟ ” ]

هذا التساؤل هو لسان حال جل شخوص المجموعة، أغلبها يطبعها الصراع اللامجدي والاستسلام لواقع متنافر، لا يناسبه إلا ليل عوراته غير مستورة. شخصيات محبطة إذن..تعرفنا على أغلبها بصفة إجمالية في حانة بالنص الأول..عندما كانت ياسمين تتنقل بينها في براءة الست سنوات..وتقترب من شاب – لعله المعطي أو طالب الفلسفة – سرقت الكأس منه شبابه واستحال إلى شبح قاتم يستعمر يوميا تلك الزاوية المظلمة أسفل الحانة..ثم تتركه وتمضي مسرعة نحو طاولة أخرى تجمعت حولها سعيدة قيدومة عاهرات الحانة، والحاج عمر الذي يرتاد المكان بعد فراغه من صلاة العشاء، فضلا عن خالد/ربيعة الذي لا يشبه الرجال..ونتعرف أيضا على والدة ياسمين التي علا صوتها أمام الكونطوار وهي تختلف مع زبون حول سعر ليلة لا يكفي لشراء دواء لياسمين، ويطالعنا النادل القزم أو مسيو طونيو في هذا السياق، وهو الذي أورثه النصراني حانته ليكون بعده عينه التي لا تنام.

شخوص كافكاويون حسب تعبير الأخ عبد الرحيم العطري، انسحقوا كلهم، وعجزوا عن متابعة السير بعد أن ابتلعهم ليل سقطوا ضحاياه، وكشف عنهم وعن عوراتهم.

وتبقى ياسمين رمز الطفولة والمستقبل، ويبقى السؤال مطروحا حول هذا المستقبل، هل ستتجنبه العتمة؟ وهل ستشرق آماله وتطلعاته؟ وتأتي فقرة من النص لتنفي الأمل والإشراق..لأن ياسمين مازالت متسمرة في مكانها تحت عمود فقد مصباحه..وبقيت وحيدة وسط شوارع المدينة النائمة برفقة القطط والكلاب الضالة ( ص 80 )..هكذا اختار لها السارد/الكاتب هذا الوضع الذي عرى عنه الليل..وهو لعمري وضع تسرب كغيره من ثقوب الوطن.

وأخيرا أدعوكم إلى نسيان هذه الانطباعات..وإلى قراءة نصوص المجموعة..لتؤسسوا قراءتكم الخاصة.

29 juin 2006

بطاقة عبور ... انتصار السوسيولوجيا

شهادة في حق عبد الرحيم العطري

بقلم الأستاذ  هشام لمغاري 

بطاقة عبور.. انتصار السوسيولوجيا ..

و هو يتلمس طريقه للبحث عن تفسير ممكن لما يخرج به علينا هذا الاجتماعي ، لم يكن ذلك المجذوب الذي يرفع عقيرته بالنداء ليلفت انتباه الكل .. بل إنه قطع مشوار التألق درجة درجة ، و قادته طموحاته و أسئلته الشقية للظفر بلذتين : لذة البحث السوسيولوجي و لذة الصحافة التي ظل مفتتنا بها تائها بين دروبها و متاريسها ، قبل أن يعل خلاصه منها ..لتنتصر بذلك السوسيولوجيا التي تخصص فيها دراسيا بعد المعهد الملكي لتكوين أطر الشبيبة و الرياضة ..و تتفجر موهبة باحث جديد في مجال قلما تخصصت فيه الأقلام مقارنة مع مجالات الكتابة الأخرى .

هذا هو عبد الرحيم العطري  إنسان لا يطمئن للجاهز و اليقيني ، تراه دوما منحازا لكل ما له علاقة بالتساؤل و التفكيك ، يمتهن النقد و المساءلة ، يخلخل و يطرح أكثر الأسئلة إحراجا و إرباكا لحسابات الذين هم فوق و تحديدا أولئك الذين ينعتهم بمالكي وسائل الإنتاج و الإكراه في النسق المجتمعي .

جمعتنا لذة الصحافة حينا من الدهر ، عندئذ تعرفت على الإنسان القابع فيه و هو يصرخ عاليا مع نيتشه : هل مات فينا الإنسان ؟ ، فقد كان مثله يهفو إلى السوبرمان ، إلى إنسان أكثر إنسانية و نقاء يعفينا من الموت الرخيص و الانسحاق اليومي...

بعد سنوات من الغرق الرائع في مهنة المتاعب سيقرر عبد الرحيم العطري الهجرة إلى دنيا الشباب ليعانق بكل امتلاء هموم و آمال دار الشباب المغربية كمجال مهني جديد ، مع الشباب إذن سيستمر صديقنا المتسائل أبدا في اقتراف السؤال ضدا على منطق الحقول كما يشير إلى ذلك فاتنه الراحل بيير بورديو ، و التي تهفو إلى إعادة إنتاج نفس الأوضاع و تكريس ما هو قائم ، و لأن الصحفي لم يغادره بعد فإنه يستمر في الكتابة التي يعتبرها شرطا وجوديا للإنسان و آلية ممكنة لمحاربة الانقراض و مقاومة التفاهة و الابتذال  في هذا الهنا و الآن ..و في هذا الحقل المفتوح على كل الاحتمالات سيهدينا الصحفي و الباحث فيه مقالات و دراسات تتوسل بالتحليل السوسيولوجي لفضح طبيعة و اشتغال النسق السوسيوسياسي.

لقد قطع أشواطا كثيرة كانت تفيد بأن ثمة شاب سيضيء بدون شك مشهد الثقافة و الإعلام بأسلوبه الرائق الذي ينم عن إحساس مرهف و إيمان بالرسالة و حسن كلام يؤشر لبداية موفقة ، فالتخصص في البحث السوسيولوجي مسألة صعبة  تستلزم نفسا طويلا و رصدا متواصلا للظواهر الاجتماعية ، و مع ذلك فقد اختار هذا الباحث هذا المسار الصعب أملا في الفهم و التغيير و التجاوز كما يقول دائما .

في نهاية العام 2000 جاءنا عبد الرحيم العطري بكتابه البكر دفاعا عن السوسيولوجيا مدافعا عن هذه المعرفة التي عاشت حالة الاستثناء و ما تزال تتعرض قصدا و عفوا لمزيد من التهميش ، و هاهو اليوم يواصل مشروعه المعرفي المنافح عن ضرورة الفعل السوسيولوجي فاضحا جدل الإدماج و التهميش الذي يصادفه الشباب في مختلف المؤسسات المجتمعية ، فهنيئا لنا بباحث يجتاح الحقول المعتمة و المسكوت عنها ، و يصر في كل حين على إغناء مشروعه الفكري، و مزيدا من السوسيولوجيا و العطاء لفهم تفاصيل هذا المجتمع العصي على القبض و الفهم .

و في العام 2004 سيهدينا مجددا كتابا حول سوسيولوجيا الشباب المغربي ، ليفاجئنا في العام 2005 باقتحامه الجميل للعوالم الافتراضية و إصراره على التسكع البهي بين مواقعها الأدبية و الاجتماعية و الفكرية ، لنكتشف نهاية إنسانا متعدد المواهب ، لا تقيده صرامة البحث السوسيولوجي الذي يبدو أنه ينتصر فيه على باقي الألوان الأدبية الأخرى التي برع فيها ، لكن ما يجعلنا نطمئن و نفرح كثيرا في آن هو أن قلم الصحفي و الأديب لم يمت فيه ، ها هو يستيقظ فيه في كل مرة ليهدينا شعرا و قصة و تأملات عميقة تبحث عن المعنى و سر موت الإنسان .

هشام لمغاري

صحفي مغربي

Publicité
Publicité
عبد الرحيم العطري
Publicité
Archives
Publicité